في الوقت الذي يبكّر فيه بعض النّاس بسيّاراتهم برفقة أبنائهم وبناتهم، متوجّهين بهم إلى المدارس الحرّة أو الحكوميّة لتلقّي التعليم المحترم لضمان مستقبلهم، أو متوجّهين بهم إلى المراكز الحالة المدنيّة للحصول على أوراقهم الثبوتيّة للحفاظ على حقوقهم الوطنيّة، وتسهيل أمورهم التي تتطلّب الحصول عليها
إحضار الوثائق التي تُثبت الهويّة. في ذلك التوقيت الذي يصعب على الأطفال الاستيقاظ إلاّ بمساعدة كبار السّنّ؛ ترى أطفالا آخرين يبكّرون بدورهم، ولكن هذه المرّة ليس إلى المدارس الحرّة أو الحكوميّة، ولا إلى المراكز الحالة المدنيّة لاستخراخ الوثائق المؤمّنة، لا. إنّما يذهبون للتّسوّل، نعم، التّسوّل! تراهم يتسابقون مع السّيارات في الطرقات، إذا توقّفت سّيارة يحيطون بها من كلّ الجهات، كلّ يدفع صاحبه في محاولة يائسة لإبعاده عنها، ويكون هو وحده من يقترب إليها أوّلا، وكثيرا ما ينشب الخلاف بينهم وفي بعض الأحيان يتطوّر الخلاف إلى عراك فيما بينهم، بسبب ما يحصّلون من المارّة. إذ أنّ كلّ واحد منهم يحاول الحصول على نصيب الأسد، هذا إن لم يستأثر به أصلا.
في الحقيقة أنّ هذا النوع من التّسوّل؛ غير جديد بالنّسبة إلى تلاميذ المحاضر لدى كثير من القبائل الأفريقية وخاصّة الفلاّن (أقصد بالفلاّن كلّ الناطقين باللّغة البلاريّة)، أينما وُجدوا في جميع أنحاء القارّة، ولا سيّما في منطقة “فوتاتورو” التي تُطلق حاليا على ضفّتي نهر السّنغال في جنوب موريتانيا وفي شمال السّنغال، حيث يعتقد النّاس أنّ التّسول يجلب البركة للتّلميذ، إضافة إلى كونه مصدر رزقه ولقمة عيشه، كما أنّه مصدر كسب الشيخ نفسه. لأنّه – الشّيخ – يقوم بعمليّة تعليم الأولاد بدون مقابل، وآباء التلاميذ عادة إذا سلّموا أبناءهم للمعلّم لا يلتفتون إليهم ولا إلى معلّمهم، لا يهمّهم كيف يأكلون، أو ماذا يلبسون، أو غير ذلك من الأمور الضّروريّة في حياة الإنسان. إذن لا بدّ لهم من اللّجوء إلى التّسوّل، وتشغيل هؤلاء المساكين في المزارع وفي مهن أخرى، لأنّهم ببساطة شديدة؛ إذا لم يفعلوا ذلك لا يستطيعون توفير أقواتهم وحاجيات أهاليهم، فضلا عن أقوات التّلاميذ الذين يعلّمونهم. وبالتّالي؛ لامانع من إضفاء نوع من القدسيّة على عمليّة التّسول هذه، لتبريرها وضمان استمراريّتها، وهو ما تحقّق لهم حين اعتقد المجتمع أن كلّ تلميذ إذا لم يمر بمرحلة التّسول؛ لن تُكتب له البركة في علمه، مهما وصل مستواه العلمي. لذلك أصبح الحديث عنها بشيء من الانتقاد؛ كأنّه انتقاد لتعليم القرآن نفسه، وكلّ من يتجرّأ وينتقدها، يصفونه بالعميل والملعون، وأنّه يحارب الإسلام ذاته. صحيح هناك بعض الشيوخ المحترمين في المنطقة مرّوا بتلك التجربة، ولم تؤثّر في سلوكهم، لكن في المقابل هناك من أصبحوا حراميين وقطّاع طرق، يختطفون بما في أيدي النّاس في الطّرقات والأسواق، وهذا هو الغالب في الوقت الحالي، وخاصّة في المدن الكبيرة. خلاصة القول أنّ هذا النّوع من التّسوّل؛ غير جديد على الأقلّ في مجتمع الكوار عامّة، وفي موريتانيا ونواكشوط خاصّة. هذا لا يعني تبريره أو الدّفاع عنه أو الدعوة إلى عدم محاربته، وإنّما فقط مجرّد إشارة إلى تجذّره في تلك الأوساط، وإنّما يجب محاربته واجتثاثه من الجذور، وإن كان ذلك يتطلّب تدرّجا و وقتا طويلا حتى يمكن القضاء عليه نهائيّا.
ولكن الذي لا يحتمل الانتظار والتّدرّج؛ هو ذلك النّوع الجديد نوعا ما، أعني به تسوّل الكبار الذي شوّه شوارعنا ومدننا، أخطر ما فيه أنّه أيضا آخذ طابع لوني إلى حدّ بعيد، إذ أكثر الذين يمارسونه من سود البشرة، وأغلب ظنّي أنّ جلّهم من النّاطقين بالبلاريّة، قد أكون مخطئا ولكن هذا انطباعي حتى يَثبت لي عكس ذلك. ربّما ضيق ذات اليد وانعدام الحيلة؛ دفع البعض إلى امتهان هذه المهنة السّيّئة السّمعة، ولكنّ الواقع المشهود يؤكّد أنّ الكثير منهم لم يدفعهم إلى ذلك إلاّ الطّمع بما في أيدي النّاس، والهروب من المسئوليّة، والاستسلام للكسل، والرّكون إلى الدّعة، والتّواكل وإدمان الاعتماد على الغير، وجمع الأموال بأسهل الطّرق، ما دام المجتمع يقبل ذلك. إذ ثبت بالمشاهدة أنّ فيهم من هم في سنّ الإنتاج ولا يعانون بشيء ممّا يمكن أن يكون مانعا لهم من مزاولة العمل، بكونهم ليسوا من ذوي الاحتياجات الخاصّة بمعناها العام، ويتمتّعون بصحّة جيّدة، رغم ذلك يمتهنون تلك المهنة، وهذا دليل على أنّهم جعلوها وسيلة لجمع الأموال ولم يضطرّوا إلى ممارستها كرها، وإنّما يمارسونها عن إدارة ورغبة وإصرار، ولذلك يجب محاربة هذه الظّاهرة بشتّى الوسائل الممكنة، قبل أن تستفحل أكثر وتخرج عن السيطرة. ويجب على الجميع تكاتف الجهود من أجل تحقيق ذلك.
باعتقادي؛ محاربة هذه الظّاهرة هي دور المجتمع بكلّ فئاته، قبل أن يكون دور الدّولة نفسها، إذ لولا تقبّل المجتمع لا يكون هناك متسوّل فيه، إذن فواجب المجتمع بهذه الحالة أكبر من واجب الدّولة، وبالتّالي على المجتمع اتّخاذ التدابير للقيام بدوره كما ينبغي. ويمكن أن يتمّ ذلك بإنشاء جمعيّة أو صندوق للزّكاة، وتكون له فروع في شتّى مناطق البلاد لجمع الزّكوات والصّدقات، ثمّ صرفها إلى مستحقّيها. وينسّق مع الدّولة عن طريق وزارة الشّئون الاجتماعية والطّفولة والأسرة، و وزارة الشّئون الإسلاميّة والتعليم الأصلي، تكون مهمّة وزارة الشّئون الاجتماعية هي؛ القيام بعمل البحوث الاجتماعية للوقوف على أسباب هذه الظّاهرة، سواء الاجتماعيّة منها أم الاقتصاديّة، وعمل جرد لمعرفة من يستحقّ منهم المساعدة ومن لا يستحقّ، إن تطلّب الأمر تدريبهم بهن معيّنة، وتكون بذلك قد ساهمت في حلّ مشكلة تسوّل الكبار. بينما يمكن أن يتمحور دور وزارة الشّئون الإسلاميّة والتعليم الأصلي في تعميم إشرافها على كافّة المحاضر في البلاد، بدلا من تخصيص إشرافها ومساعداتها لفئة دون أخرى، وتكون هي أيضا قد ساهمت مع المجتمع للقضاء على ظاهرة التّسول نهائيّا في مجتمعنا…